"سوريا بحاجة إلى ثقافة العدالة"

رجل يجثو على ركبتيه ويلعق الماء.
في فبراير/شباط، عُرض فيلم بورجمان الوثائقي "تدمر" (2016) في دمشق للمرة الأولى، ليجد صدى جديدًا بعد سقوط الأسد. (Photo: Copyright for Qantara/ALFILM)

أمضت المخرجة مونيكا بورجمان سنوات طويلة في توثيق أنظمة السجون في لبنان وسوريا. تتحدث بورجمان، في هذه المقابلة، عن مستقبل سوريا، ونضالها من أجل العدالة بعد اغتيال زوجها ورفيق دربها، الناشط اللبناني لقمان سليم.

الكاتب، الكاتبة : محمد مجدي

قنطرة: في عام 2021، اُغتيل شريكك في الحياة والعمل لقمان سليم في لبنان، في جريمة يعتقد كثيرون أنها جاءت نتيجة انتقاده العلني لحزب الله. بعد وفاته، قلتِ "أنا ولقمان كنا نكمل بعضنا الآخر"، كيف تعاملتِ مع هذا الفقد العميق على المستوى الشخصي والمهني؟

مونيكا بورجمان: إنه صراع دائم ويومي. كنا نتشارك كل شيء—الأفكار، القرارات، والحياة. لقمان غائب عن كل زاوية، كل يوم، لكن العمل مستمر، وذلك بفضل فريق رائع يدعمني.

في أبريل/نيسان الماضي، أعيد فتح ملف قضية لقمان بعد أن قال القاضي إنه غير قادر على تحديد القتلة. وكتبتِ على منصة "إكس": "العدالة قادمة!"، ما الذي تحقق في القضية طوال السنوات الأربع الماضية؟

لقد تولى القضية قاضيان حتى الآن. وكان القاضي الأخير، بلال حلاوي، الأسوأ، لأنه كان يريد إثبات أن حزب الله لم يقتل لقمان، الذي قاتل ثلاثة من أفراد عائلته في صفوف الحزب. أول شيء قاله لنا هو: "سأثبت لكم أن من تشتبهون فيهم ليسوا من اغتالوا لقمان"، حتى أنه رفض استخدام كلمة "اغتيال"، وقال بدلًا من ذلك "لقمان توفى".

ومع ذلك، قدمنا في 26 نوفمبر/تشرين الثاني، طلبًا لمحكمة التمييز لاستبدال القاضي حلاوي، وعندما علم بذلك، أغلق الملف إلى حين تقديم أدلة جديدة. الآن، قررت المحكمة إعادة فتح القضية مع قاضٍ جديد.

أنا أعرف ملف القضية جيدًا، هناك أدلة كافية —مواد فيديو وسيارات تم التعرف عليها تتبعت لقمان. لو كانت هناك إرادة سياسية، لتحقق الكثير في القضية، وآمل أن تأتي هذه الإرادة قريبًا.

Black and white portrait of a woman.
مخرجة ومديرة مشاركة لمنظمة أمم للتوثيق والأبحاث

ولدت مونيكا بورجمان في ألمانيا عام 1963، ودرست الدراسات الشرقية والعلوم السياسية في بون ودمشق. عملت من عام 1990 إلى 2001 كصحافية مستقلة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا لصالح إذاعات ألمانية وصحيفة "دي تسايت". منذ عام 2001، تعيش في بيروت، حيث أسست مع زوجها اللبناني لقمان سليم منظمة "أمم" في عام 2004. أخرجت مع سليم الفيلمين الوثائقيين "مجزرة" (2004) و"تدمر"  (2016). 

في عام 2016، أخرجتما معًا فيلم "تدمر" عن معتقلين لبنانيين سابقين في السجون السورية، لكن جرى عرضه في دمشق لأول مرة، في فبراير/شباط الماضي بعد سقوط الأسد. كيف كانت ردود الفعل؟

الفيلم جال المهرجانات حول العالم منذ إطلاقه. خضنا الكثير من النقاشات بشأنه، لكن لم يُعرض في سوريا من قبل. في دمشق، كان العرض مليئًا بالحضور، من بينهم معتقلون سابقون. بعضهم لم يجد مقعدًا فوقف لمشاهدة الفيلم رغم طول مدته.

تأثرتُ بشدة بالنقاشات التي دارت بعد العرض في دمشق، قالت إمرأة من الحضور إن الفيلم كان "خفيفا جدًا" —أي أن التعذيب الحقيقي كان أسوأ بكثير مما أظهره الفيلم. لم أسمع تعليقًا كهذا من قبل، لكنه بالطبع صحيح.

كان العرض مؤثرًا للغاية، وشعرت أنه فتح بابًا لمشاركة المعاناة والنقاش حول العدالة والمحاسبة.

إلى أي مدى كانت الزنزانات التي أعدتم تصميمها في الفيلم مشابهة لتلك التي شاهدناها في ديسمبر/كانون الأول الماضي عندما فتحت السجون بعد سقوط الأسد؟

عندما زرت سجن صيدنايا في فبراير/شباط، تعرفت على الزنازين من فيلمنا "تدمر"، وشعرت أني أعرفها جيدًا. كانت ذاكرة المعتقلين السابقين، مثل علي أبو دهن (أحد أبطال الفيلم)، دقيقة بشكل مذهل. صورنا في مدرسة مهجورة وأعدنا بناء الزنزانات فيها، حتى البطانيات والأحذية التي اشتريناها للفيلم رأيتها في صيدنايا. إنه أول فيلم يحاول فعلاً أن يُظهر ما حدث داخل السجن.

ماذا عن الناس هناك، كيف كانت الأجواء بعد سقوط الأسد؟

الجميع كانوا سعداء بنهاية الأسد، لكن كانت هناك شكوك أيضًا. شعرت أن هناك أملاً كبيرًا، لكن أيضًا خوفًا من فشل المرحلة الانتقالية.

لكي تنجح هذه المرحلة، يجب أن تكون العدالة والمحاسبة في صلبها. للأسف، أماكن الجريمة، مثل السجون، ليست محمية كما ينبغي. إذا كان هناك شيء واحد يجب تحقيقه، فهو العدالة. ستفشل المرحلة الانتقالية إذا دخلت سوريا في دائرة جديدة من الإفلات من العقاب.

هناك مئات المنظمات السورية والأفراد الذين يملكون الخبرة، وآمل أن يتم إشراكهم في هذه المرحلة.

Here you can access external content. Click to view.

هل تعتقدين أن الحكومة الجديدة ستقوم بذلك؟

آمل أن يتم دفعها في هذا الاتجاه. بالطبع، معظم الجرائم ارتكبها نظام الأسد، لكن هناك أعضاء في الحكومة الجديدة ارتكبوا أيضًا جرائم، وأداروا سجونهم الخاصة. يجب أن تكون العدالة شاملة، لا يمكن تجزئتها بين نظام قديم وجديد.

سوريا تحتاج إلى ثقافة عدالة تواجه ثقافة الإفلات من العقاب. من خلال هذه الثقافة، يجب النظر في كل الجرائم التي ارتُكبت في الماضي، وهذه مهمة صعبة.

مما سمعته وقرأته في دمشق، الناس ينتظرون شيئًا ملموسًا. لا يكفي القول إن شيئًا ما سيحدث في المستقبل، بل يجب رؤية خطوات حقيقية، وأحدها يمكن أن يكون حماية سجن مثل صيدنايا.

رأينا حرّاسًا عند مدخل صيدنايا، لكن الأبواب لم تكن موجودة، والقطع الحديدية مفقودة. كل زنزانة جماعية كانت تحوي كاميرا، ومعظم الكاميرات اختفت، وكذلك الأرشيف. شاهدنا لقطات لأشخاص يرسمون على جدران سجن اللاذقية، وحتى ناشطين يفعلون الشيء نفسه في صيدنايا. هذه الأماكن هي مسارح جرائم، ويجب أن تتحول إلى متاحف لاحقًا. يجب على الحكومة الجديدة أن تفهم الرمزية الكبيرة لهذه الأماكن.

في عام 2004، أسستِ مع لقمان سليم منظمة "أمم للتوثيق والأبحاث" في بيروت، بهدف التعرّف على نظام السجون في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. ما الدور الذي تلعبه "أمم" في التعامل مع انتهاكات السجون السورية؟

تعمل "أمم" منذ سنوات على نشر ثقافة العدالة الانتقالية في لبنان. من خلال مبادرتنا، "منتدى المشرق والمغرب للشؤون السجنية"، عملنا أيضًا على سوريا لفترة طويلة، بالإضافة إلى فلسطين وتونس والجزائر ودول أخرى. تتناول المنظمة التوثيق، والعدالة الانتقالية، والذاكرة، ومهمتنا هي مواجهة ثقافة الإفلات من العقاب. نحن مستعدون لمشاركة خبرتنا، ونتواصل مع عدة منظمات سورية تعمل على توثيق السجون، ونقدم الدعم حيثما نستطيع.

لا يزال مئات الآلاف من الأشخاص في عداد المفقودين في سوريا، وعائلات تنتظر معرفة مصير أحبائها والعدالة لهم. كيف تقيّمين الوضع؟

إنه كارثة. نتلقى اتصالات بشأن مقابر جماعية، ونوصي الناس بعدم الاقتراب منها؛ فهي مسارح جريمة. نحتاج إلى تدخل الصليب الأحمر أو منظمات مهنية أخرى لفتح هذه المقابر وأخذ عينات DNA. يمكن للجثامين أن تخبرنا بالكثير عن كيفية قتل الضحايا، ولكن وحدها فرق الطب الشرعي المتخصصة يمكنها التعامل معها بالشكل الصحيح. تحتوي هذه المقابر على أدلة حيوية ويمكن أن تريح العائلات. لكن للأسف، يستغرق هذا العمل وقتًا طويلاً.

منذ نوفمبر/تشرين الماضي، تستضيف برلين "منتدى المشرق والمغرب للشؤون السجنية"، لفهم أنظمة السجون في المنطقة بعمق، لكن هل هذا الفهم ممكن فعلاً؟

كلما تعمقت في البحث، وجدت أمورًا غامضة أكثر. إذا كنت تعيش في العالم العربي، يمكنك أن ترى كيف أن موضوع السجن حاضر بشكل دائم. يمكنني القول إنك لا تستطيع فهم العالم العربي بدون فهم السجن. فالسجن ليس فقط التعذيب والصدمات—السجن يمكن أن يكون مدرسة؛ حتى أيديولوجية جماعة الإخوان المسلمين وُلدت في السجن. إنه موضوع معقد للغاية.

الفكرة الأساسية للمنتدى هي جمع المعتقلين السابقين، والمخرجين، والفنانين، والكُتّاب، والقضاة، والمحامين، والباحثين لإعادة التفكير في السجن، والتعذيب، والصدمات. عقدنا 3 فعاليات في برلين، والرابعة ستكون في يونيو/حزيران. كثير من شركائنا الذين كانوا سابقًا في بيروت انتقلوا إلى برلين، لذا أصبحت مركزًا للحوار ما بعد الربيع العربي. إنها أفضل مكان لاحتضان المنتدى.

من أي جانب يعدّ فهم نظام السجون أمرًا جوهريًا؟

بكل معنى الكلمة: كيف يعمل السجن؟ وما هي آليات البقاء على قيد الحياة؟ وفهم أن أساليب التعذيب تنتقل حول العالم، وتأثير السجن على المجتمع.  

إذا أخذنا سوريا تحت حكم الأسد كمثال، أعتقد أن بعض السجناء أُطلق سراحهم لنشر رسالة رعب. الإفراج عن معتقلين يروون ما مرّوا به يمكن أن ينشر الخوف في المجتمع بأسره. لفهم هذا المجتمع، يجب فهم نظام السجون.

كيف تقارنين سوريا بحالات إقليمية أخرى؟

أنا أتجنب المقارنات. التعذيب هو تعذيب. ما ميّز سوريا هو مدى تنظيم النظام السجني—منهجي ومُصمم لبث الرعب.

اقترح البعض أن سوريا يمكن أن تستفيد من تجربة ألمانيا بعد عام 1945 في تطوير ثقافة الذاكرة ونظام عدالة. ما رأيك في ذلك؟

يجب على السوريين أن يجدوا مسارهم الخاص، ولكن بالطبع يمكنهم الاستفادة من تجارب الآخرين. لدى ألمانيا تجربة مع النازية وذراعها الأمني "شتازي"، مثلما كانت وكالة المخابرات الجوية السورية تعمل بطريقة شبيهة بالشتازي، إذ كانت توثق كل شيء. يمكن للسوريين أن يتعلموا من ألمانيا، ودول أمريكا اللاتينية، وتونس. المهم ألا يتم التقليد، بل أخذ ما هو مفيد. ولكن في النهاية، سيكون قرار تحقيق العدالة قرارًا سوريًا.

النص مُترجم من الإنجليزية

قنطرة ©